يقدم مسلسل “دائرة كاملة” (Full Circle) خليطا من السحر الأسود، والفساد المالي، والأسرار العائلية المشينة، خلال 6 حلقات فقط تجعل المشاهد على أطراف أصابعه تحرقا في نهاية كل حلقة، غير قادر على استجلاء أسرار المسلسل، وفي حاجة لمزيد من التوضيح والمعلومات التي تأتي قطرة تلو الأخرى.
“الدائرة الكاملة” مسلسل تلفزيوني أميركي كتبه إد سولومون، وأخرجه ستيفن سودربيرغ لصالح شبكة “ماكس”، وتم عرضه لأول مرة الصيف الحالي.
لغز لا يمكن مقاومته
تبدأ أحداث المسلسل “دائرة كاملة” بمنزل لأسرة من الطبقة الوسطى العليا، عائلة يتضح غناها من طريقة تأثيث البيت، وملابس وطريقة تعامل الأب والأم. ويبدو على الجميع الهناء، إلا من بعض المنغصات التي لا تبدو أساسية، مثل فقدان الابن المراهق لبضعة أغراض، مثل حذاء وسترة، ولكن الأمر يستفز الوالدين عندما يفقد كذلك هاتفه. وفي إحدى الليالي، تأتيه مكالمة تخبره أن أشياءه كلها مع ولد آخر يكبره في العمر، وعليه أن يحضر للحديقة للحصول عليها.
نرى على الناحية الأخرى جزءا آخر من القصة تُنسج خيوطه في العوالم السفلى لمدينة نيويورك، عائلة تبدو كما لو أنها عصابة كبيرة، أفرادها من أحد بلدان أميركا الجنوبية. وبعد جنازة عميد العصابة، تبدأ تحركات لما يشبه عملية إجرامية قادمة، ولكن يصاب الجميع بالتوتر، فالأمر ليس فقط اختطاف أو فدية، بل كل خطوة محسوبة بشكل يدل على جانب ماورائي واضح.
هذان الخطان الدراميان سيتقاطعان بعد قليل، وحين يقتربان، يتخطى كل منهما الآخر بلعبة من القدر، الأمر الذي يعقد الحبكة ويجعل اللغز يمتد لـ6 أجزاء بلا أي ملل، فبدلًا من اختطاف “جاريد” ابن الأسرة الغنية التي يترأسها الشيف “جيف” (جد المراهق)، يتم اختطاف “نيك” الشاب الذي دأب على سرقة حاجيات جاريد بشكل مهووس لشهور.
أزمة عائلة الشيف لا تتوقف عند هذه النقطة، فبدخول الشرطة على الخط يكتشف كل أفراد العائلة أنهم يخفون أسرارا عن بعضهم بعضا، وأن ما كاد يحدث للحفيد ليس إلا رد على فعل قام به أحد أفراد الأسرة قبل ميلاده، وحان وقت سداد الثمن.
يغزل المسلسل خيوط حبكته على مدار الحلقات الست، فلا يمكن الكشف عن أبعاد ما يحدث بالكامل إلا في آخر ربع ساعة، فيبدو كما لو أنه فيلم طويل من 5 ساعات، بلا لحظة ملل واحدة، الأمر الذي استلزم الحفاظ على الإثارة، وما يجعل ذلك أكثر صعوبة إيقاع المسلسل الهادئ، الذي لا يعتمد على موسيقى تصويرية صاخبة، أو حوار كاشف، أو انفعالات شديدة من الممثلين.
حاكى المخرج سودربيرغ في إيقاع المسلسل الحياة الواقعية، بلا انعطافات في الحبكة، أو مفاجآت كبرى، بل استنتاج يتم عبر خطوات كثيرة، فتجعل المشاهد يفكر -في كثير من الأحيان- كما لو أنه أحد شخصيات المسلسل بالفعل.
جريمة مختلفة
اشتهر سودربيرغ بسلسلة أفلام “أوشن” (Ocean) التي تنتمي لنوع أفلام السرقة، وقام ببطولتها مجموعة من أشهر نجوم السينما، على رأسهم جورج كلوني، وبراد بيت وجوليا روبرتس، أفلام حققت نجاحا متتاليا، فتحولت لظاهرة ثقافية.
بجرأة شديدة قام سودربيرغ بتجربة النوع نفسه مرة أخرى، ولكن بقلبه رأسا على عقب، فبدلا من المشاهير لجأ لممثلين جدد، وجوه غير معروفة بشكل كبير، جزء كبير منهم ليسوا من الولايات المتحدة، ويتحدثون الإنجليزية بلكنة واضحة.
الأمر لم يتوقف عند عامل التمثيل، فقد استغنى المخرج عن عملية السرقة شديدة الإبهار، التي يفككها أمام المشاهد بصورة ذكية ومثيرة، واختار في مسلسل “دائرة كاملة” الغموض الشديد، وترك إثارة مشاهد الحركة جانبا، ليستخدم الواقعية التي تدفع المشاهد للتساؤل عن حقيقة ما جرى واحتمال حدوثه في أي مدينة بالعالم.
امتد الأمر إلى جوانب فنية أخرى، مثل اختيارات التصوير، فوضع جانبا الصورة البراقة واللامعة للمسلسلات التلفزيونية الحديثة، ولجأ إلى صورة شديدة التجريد، وألوان باهتة، تجعل المسلسل يتشابه مع الأفلام الأوروبية القديمة خاصة تلك القادمة من أوروبا الشرقية، عالم شديد البرودة، لا يتشابه مع هوليود التي تضفي الجمال على أكثر الأشياء بشاعة.
يتناول المسلسل قضايا من العالم الحقيقي، ليست فقط مغروسة في نسيج مسلسل إثارة وتشويق، بل هي أساسه، ومحرك حبكته، فالقصة تدور حول الفساد المالي الذي يجعل حياة مجتمع من سكان بلدة صغيرة مشردين في بلدهم، وكيف تقوم الرأسمالية بإيذاء الملايين حول العالم بصورة غير مباشرة.
يمثل السحر الأسود في هذا المسلسل مجازا يشير إلى العواقب الحقيقية التي قد تحدث نتيجة استفحال الفساد في الأرض، على يد الإمبريالية الجديدة، والاستعمار الحديث للبلاد الفقيرة من رأس المال الأميركي.
قدم سودربيرغ مسلسلا مميزا من الناحية الفنية، الأمر الذي جعله يستحوذ على إعجاب النقاد بتقييم 79% على موقع “روتن توماتوز”، ولكن الغموض الشديد والبعد عن الطابع الأميركي المعتاد في الإثارة تسبب في نفور المشاهد العادي، ليحصل على تقييم متواضع بلغ 56% فقط.