لأفلام المخرج الأميركي ويس أندرسون سحرها الخاص؛ فهي قادرة على اجتذاب كل من الجمهور والنجوم على حد سواء. وعلى إعلان كل فيلم من أفلامه تظهر وجوه وأسماء مشاهير لدرجة يصعب حصرها، وقد يجتمع هؤلاء كلهم معا في عمل واحد، وقد يقبل ممثلان من وزن توم هانكس ومارغو روبي الظهور في لقطة أو اثنتين فقط.
وفي إحدى لقاءاته قال النجم إدوارد نورتون إنه حصل مقابل دوره في إحدى أفلام أندرسون على 4200 دولار فقط، بينما حصل مقابل أدائه شخصية “هالك” مع مارفل على أضعاف مضاعفة لهذا الرقم، ولكن احتفاءه بفيلمه قليل الميزانية لا يمكن أن يقارن بشعوره تجاه أفلامه التجارية الأخرى. والسؤال هنا هو كيف يسحر أندرسون نجومه ومشاهديه في كل أفلامه، وأحدثها “مدينة الكويكب” (Asteroid City)؟
مسرحية تلفزيونية داخل فيلم
جاء العرض الأول لفيلم “مدينة الكويكب” في مهرجان “كان” السينمائي، لينافس على السعفة الذهبية. ورغم خسارته المسابقة، فإنه فاز بإعجاب النقاد، ومعدل 74% على موقع “روتن توماتوز” (Rotten Tomatoes) وإشادة بأداء الممثلين، وبالطابع البصري المميز لأندرسون.
يأخذنا المخرج في رحلة صناعة عمل فني، بذات الشغف الذي قدمه من قبله الكثير من المخرجين الذين نقلوا قصص صناعة الأفلام، من فيدريكو فيلليني وجان لوك غودار ويوسف شاهين، ولكن في “مدينة الكويكب” يجمع أندرسون بين جزء من ماضيه، وكواليس صناعة الأعمال الفنية، بالإضافة إلى نقد سياسي لأميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تربى فيها.
ويبدأ الفيلم بمذيع تلفزيوني يقدم مسرحية مصورة خصيصا للتلفاز، فينقسم السرد منذ هذه النقطة إلى جزأين، أحدهما كواليس صناعة المسرحية، واختار له أندرسون اللونين الأسود والأبيض، بينما المسرحية نفسها تم تصويرها بالألوان الفاقعة التي اشتهر بها المخرج. هذا الازدواج ليس الغرض منه فقط التفرقة البسيطة بين العالم المسرحي وكواليسه، لكن أيضا التناقض بين عالم صانع العمل وصنيعته نفسها، فهو يعيش في عالم باهت يفتقد الحياة، ويقدم فنا متألقا بالشخصيات الحيوية، التي تحمل صوته الخاص وأفكاره المعقدة.
في إحدى المشاهد يتسلل بطل المسرحية من الكواليس إلى المخرج، ويسأله عن دوافع شخصيته الدرامية، فهو لا يفهم لماذا يفعل هذه الأشياء أمام الكاميرات، فيجيبه المخرج بأنه يشاركه نفس حيرته. وفي مشهد آخر لا يعلم المؤلف كيف يطور المشهد الذي يكتبه، فيساعده الممثلون.
وينقل أندرسون الضجة الثائرة في عقل المبدع، التي حاول من قبله الإيطالي فيدريكو فيلليني تقديمها في واحد من أشهر أفلامه “ثمانية ونصف”، ومخاوف مبدع غير قادر على التحكم في شخصياته أو إبداعه، فيتحكم الأخير به.
وتدور أحداث المسرحية في مدينة صحراوية أميركية صغيرة، أهم ما حدث فيها منذ إنشائها سقوط كويكب صغير، يجتمع حوله مجموعة من طلبة المدارس المتفوقين خلال مسابقة للعباقرة، يحضرها الآباء والأمهات بطبيعة الحال، وبشكل مفاجئ تهبط مركبة فضائية بها كائن يسرق المذنب ويترك الجميع مدهوشين، ليكتشفوا بعد دقائق أنهم أصبحوا أسرى لإقامة إجبارية يفرضها الجيش الأميركي حتى اكتشاف حقيقة ما حدث بالضبط.
أميركا.. الخوف والقلق
فيلم “مدينة الكويكب” يعكس واقع أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، عندما سادت أجواء القلق والخوف من “الآخر”، والذي يتسع فيشمل الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي، وحتى الهوس بغزو من الكائنات الفضائية، بالإضافة إلى التجارب النووية التي جرى الكثير منها في صحراء “نيفادا” التي تقع فيها الأحداث، وتسلط أسطورة الجيش الأميركي الذي لا يُهزم على الأذهان.
وتم إغلاق مدينة الكويكب على الشخصيات، وتركها المخرج تتفاعل مع بعضها البعض، ليُظهر كل منها وجهها الحقيقي الذي يعكس صورة لشخصيات أخرى من المجتمع الأميركي بتعدده العرقي والثقافي. وعبر السخرية والكوميديا السوداء، يثير أندرسون أسئلة يجب على المشاهد أن يجيب عنها بنفسه، مثل هل كل “آخر” يجب اعتباره عدوا؟ وهل تلك النسخة من أميركا بالفعل انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي، أم تمت إعادة إنتاجها مع تغيير فقط لون ودين وطبيعة الآخر؟
وتأتي نهاية هذا الحصار على يد كل من المصور الصحفي، والمراهقين العباقرة، ليعطي المخرج تلميحا لرأيه في الواقع الخيالي الذي صنعه، والذي فيه يتحرك الجيش الأميركي بمنتهى القوة، ولكنها قوة ساذجة يسهل التلاعب بها على يد شباب تجازوا بالكاد مرحلة الطفولة.
ويتناول فيلم “مدينة الكويكب” مواضيع أندرسون الأكثر تفضيلا وتكرارا في أفلامه، مثل الأسرة والأبوة والحزن والحب، حيث ينصب التركيز بشكل أساسي على “أوجي ستينبيك” ونجله “وودرو” العبقري الصغير، الذي يأتي مع والده وأخواته الصغيرات لحضور المسابقة بعد وفاة الأم، وينضم إليهم الجد الذي يقدم شخصيته النجم توم هانكس.
وتعاني هذه الأسرة من صدمة كبيرة بغياب العنصر الأمومي، وفي ظل كل هذه الأحداث يبحث كل منهم عن بعضٍ من العزاء؛ الأب مع جارته في الفندق وصديقته الممثلة “ميدج” وتقدم دورها سكارليت جوهانسون، والمراهق مع أصدقائه العباقرة، والجد بين الحفيدات.
قدم فيلم “مدينة الكويكب” مجموعة رائعة من الممثلين والنجوم المبدعين، بالإضافة إلى الأسلوبية المميزة التي نتوقعها من أندرسون بناء على أعماله السابقة التي تجعل من كل لقطة لوحة تحتاج إلى تمعن جماليتها بحد ذاتها، لتشي ببعض من أسرار الفيلم. ويسلط العمل الكوميدي الممتزج بالمأساة بشكل متناغم؛ الضوء على كيفية تشكيل هوياتنا لمن حولنا، بكوننا أشخاصا، وبصفتنا مرآة للمجتمع.