تتحدّى الطبيعة اللامركزيّة للبتكوين، سيطرة البنوك المركزيّة على المعروض النقديّ وأسعار الفائدة، كما تتناقض الطبيعة الانكماشيّة للبتكوين مع العملات التقليديّة، والتي تشجّع على الإنفاق والاستثمار مع خلال التضخّم الخاضع للسيطرة.
خلال السنوات الماضية هيمنت عملة بتكوين كعملة ثوريّة تتحدّى المفاهيم التقليديّة للمال والتمويل والأنظمة الاقتصاديّة المعتمدة على المصارف، ونظرًا لطبيعتها اللامركزيّة وتقنيّة بلوكشين الأساسيّة، أثارت العملة جدلًا كبيرًا في أسواق المال لا يزال صداها حتّى اليوم.
وتمثّل عملة البيتكوين، الّتي تمّ تقديمها في عام 2009 من قبل مبتكر مجهول تحت الاسم المستعار ساتوشي ناكاموتو، خروجًا رائدًا عن العملات التقليديّة، حيث تعمل على نظام لامركزيّ، والّذي يوفّر الشفّافيّة والثبات والأمن، كما أنّ العرض الثابت لعملة البيتكوين البالغ 21 مليون عملة، إلى جانب طبيعتها الانكماشيّة، يميّزها عن العملات الورقيّة التقليديّة الّتي تخضع لضغوط تضخّميّة مدفوعة من البنوك المركزيّة.
وكانت شركة “باي بال” قد أطلقت مؤخرًا عملة رقميّة مستقرّة تعادل دولارًا واحدًا، في محاولة من جانبها لتعزيز الاعتماد على العملات الرقميّة في المدفوعات والتحويلات الماليّة.
وقالت الشركة إنّ العملة المستقرّة التي ستتاح تدريجيًّا بدءًا في الولايات المتحدة، مدعومة بإيداعات دولاريّة وسندات الخزانة الأميركيّة قصيرة الأجل، وستصدرها شركة “باكسوس تراست”.
وذكرت “رويترز” أنّ أسهم “باي بال” ارتفعت بنسبة 1.4% إلى 63.66 دولارا، بعد الإعلان عن العملة الرقميّة الجديدة.
والعملات المستقرة هي عملات رقمية مرتبطة بأصل آخر مثل الدولار أو المعادن النفيسة، مصممة للحماية من التقلبات الشديدة التي تجعل من الصعب استخدام الأصول الرقمية في المدفوعات، أو كمخزن للقيمة.
وبحثت العديد من الدراسات في تأثير البتكوين والعملات الرقميّة على الأسواق الماليّة التقليديّة، حيث بحثت دراسة أجرتها جامعة كامبريدج (2020) في العلاقة بين البيتكوين والأصول التقليديّة مثل الأسهم والسندات، ووجدت أدلّة تشير إلى أنّ بيتكوين تظهر ارتباطًا منخفضًا بهذه الأصول التقليديّة، ممّا يعني أنّها يمكن أن تكون بمثابة أداة تنويع للمستثمرين.
بالإضافة إلى ذلك، كشفت الدراسة أنّه خلال فترات عدم اليقين في السوق، يميل تقلّب سعر البيتكوين إلى الزيادة، حيث تسلّط هذه النتيجة الضوء على دور بتكوين المتطوّر كأصل مضارب، حيث يسعى المستثمرون إلى الاستفادة من تقلّبات الأسعار لتحقيق مكاسب محتملة، ومع ذلك، يقول خبراء بأنّ هذا التقلّب المتزايد يثير أيضًا مخاوف بشأن استقرار وموثوقيّة بتكوين كمخزن للقيمة.
وأحد المخاوف التي دائمًا ما يطرحها الخبراء في العملات الرقميّة، هو افتقار العملات الرقميّة ومنها بتكوين، إلى أطر تنظيميّة واضحة، كما أنّ هناك تخوّفات من القدرة على ضمان الاستقرار والأمن والالتزام، كما أنّ هناك مخاوف تتعلّق بالمخاطر القانونيّة المحتملة، كون قطاع العملات الرقميّة، غير خاضع لأيّ قوانين واضحة في مختلف أنحاء العالم.
وتحذّر الأسواق الماليّة من المخاطر النظاميّة المحتملة المرتبطة بالاعتماد واسع النطاق للعملات الرقميّة اللامركزيّة، ففي الوقت الذي تقدّم فيه الطبيعة اللامركزيّة للبتكوين عدم اليقين، فإنّ الأنظمة الماليّة التقليديّة تعتمد على مؤسّسات مثل البنوك المركزيّة لتوفير الاستقرار والسيولة والتدخّل في أوقات الأزمات، إلّا أنّ هناك خبراء يفنّدون هذه الآراء التي تنادي بـ”القدرة التنظيمية للبنوك”، خاصّة مع الانهيارات المتتالية للبنوك والمصارف منذ عام ٢٠٠٨ وحتّى اليوم.
وتلعب البنوك المركزيّة دورًا حاسمًا في إدارة السياسات النقديّة للسيطرة على التضخّم وتعزيز النموّ الاقتصاديّ واستقرار الأنظمة الماليّة، حيث تتحدّى الطبيعة اللامركزيّة للبتكوين، سيطرة البنوك المركزيّة على المعروض النقديّ وأسعار الفائدة، كما تتناقض الطبيعة الانكماشيّة للبتكوين مع العملات التقليديّة، والتي تشجّع على الإنفاق والاستثمار مع خلال التضخّم الخاضع للسيطرة، حيث يخشى خبراء بأنّه إذا ما حلّ البتكوين مكان العملات التقليديّة، فقد يؤدّي ذلك إلى تعطيل أنماط الاستهلاك وسلوكيّات الاستثمار والنموّ الاقتصاديّ.
وحظي تأثير البيتكوين على السياسات النقديّة باهتمام كبير، حيث تتحكّم البنوك المركزيّة تقليديًّا في إصدار العملات الورقيّة وتدير السياسات النقديّة لتحقيق الاستقرار في الاقتصادات، وفحصت دراسة أجراها صندوق النقد الدوليّ (IMF) في عام 2018 الآثار المحتملة لاعتماد بيتكوين على نطاق واسع على السياسات النقديّة، واقترح أنّه إذا حظيت بتكوين بقبول واسع النطاق، فقد تواجه البنوك المركزيّة تحدّيات في إدارة السياسة النقديّة، لأنّها ستفقد قدرتها على التأثير على أسعار الفائدة وعرض النقود.
وعلاوة على ذلك، يمكن أن يؤدّي العرض المحدود للبيتكوين وطبيعته الانكماشيّة إلى تعطيل النظريّات الاقتصاديّة التقليديّة، حيث تهدف السياسات النقديّة التقليديّة إلى تحفيز النموّ الاقتصاديّ من خلال التحكّم في التضخّم وتحفيز الإنفاق والاستثمار، وومع ذلك، قد تشجّع ندرة البيتكوين على ما يسمّى بـ”الاكتناز”، حيث قد يتوقّع الأفراد زيادة قيمة مقتنياتهم بمرور الوقت، ويمكن أن يؤدّي هذا إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكيّ، ممّا يؤثّر على النموّ الاقتصاديّ العامّ.
وأثارت الطبيعة العالميّة للبيتكوين تساؤلات حول تأثيرها المحتمل على الاقتصادات الوطنيّة، حيث استكشفت دراسة أجراها بنك التسويات الدوليّة (BIS) في عام الآثار المترتّبة على التبنّي الواسع النطاق للعملات المشفّرة، بما في ذلك البيتكوين، للأنظمة النقديّة. وسلّطت الدراسة الضوء على التحدّيات الّتي قد تواجهها البنوك المركزيّة في الحفاظ على السيطرة على سياساتها النقديّة المحلّيّة في ظلّ وجود عملات رقميّة لامركزيّة، بالإضافة إلى ذلك، ناقشت الدراسة إمكانيّة استخدام العملات المشفّرة في المعاملات عبر الحدود، ممّا يوفّر بديلًا أسرع وربّما أرخص لأنظمة التحويلات التقليديّة، ويمكن أن يفيد هذا بشكل خاصّ الأفراد في المناطق ذات الوصول المحدود إلى الخدمات المصرفيّة الرسميّة، ممّا يعزّز الشمول الماليّ.
ودفعت إمكانات بتكوين التخريبيّة الحكومات والهيئات التنظيميّة إلى التعامل مع الحاجة إلى رقابة فعّالة، حيث أجريت دراسة أجراها البنك المركزيّ الأوروبّيّ (ECB)، وفحصت المشهد التنظيميّ للعملات المشفّرة، بما في ذلك البيتكوين، وأكّدت الدراسة على أهمّيّة الموازنة بين الابتكار وحماية المستهلك والاستقرار الماليّ، وسلّطت الضوء على الحاجة إلى أطر تنظيميّة واضحة لمعالجة قضايا مثل غسيل الأموال والاحتيال وحماية المستثمرين.
وكان استهلاك طاقة البيتكوين أيضًا موضوعًا للنقاش، حيث تتطلّب عمليّة التعدين، الحاسمة للتحقّق من صحّة المعاملات على بلوكشين قوّة حوسبة كبيرة، ممّا يؤدّي إلى مخاوف بشأن تأثيرها على البيئة، وقدّرت دراسة أجرتها جامعة كامبريدج (2021) أنّ استهلاك بيتكوين للطاقة يمكن مقارنته باستهلاك بعض البلدان الصغيرة.
ومع ذلك، أشارت الدراسة أيضًا إلى أنّ مزيج الطاقة المستخدم في تعدين البيتكوين يختلف على نطاق واسع، حيث تستخدم بعض المناطق مصادر متجدّدة، ويسلّط هذا الضوء على قدرة تعدين البيتكوين على تحفيز تطوير تقنيّات الطاقة المتجدّدة وممارسات أكثر استدامة على المدى الطويل.
والتأثير الاقتصاديّ للبتكوين متعدّد الأوجه وآخذ في التطوّر بحسب خبراء، حيث استطاع اختراق أسواق المال التقليديّة وفرض تحدّيات على السياسات النقديّة المعمول بها، بالإضافة إلى إثارة التساؤلات حوق الأطر التنظيميّة والشموال الماليّ والابتكار التكنولوجيّ والأنظمة اللامركزيّة.