يبدو الأدب والصحافة وكأنهما أبناء عمومة، فكلاهما يغترف من معين اللغة ويحاول أن يكون مرآة للواقع، وإن كانت الصحافة أكثر اقترابًا من الواقعية والأدب، يبقى للشعر -رغم كونه أحد الأجناس الأدبية- خصوصية مميزة.
ذهبت بعض الآراء النقدية إلى أن للشعر لغته الخاصة، تميزه من غيره من الفنون، وفي المقابل يرى صحفيون وكتّاب أن للصحافة لغتها الخاصة -أيضًا- التي تميزها من بقية الفنون والآداب.
وواقعيًا -يقول صحفيون- لسنا ندري، هل هناك حقًا سمات للغة الصحافة أو لا؟ لكن الشعر لا يزال يتميز بلغته الخاصة التي تقوده -وفق بعض النقاد- نحو التفرّد، أو حتى الانعزال.
ومع ذلك ظهرت دعوات حديثة لجعل الشعر غير خاضع للتجنيس والتصنيف الأدبي، ولا سيما من قِبل الشعراء الذين مارسوا العمل الصحفي، أو كانوا روائيين وقصّاصين، وغير ذلك.
ولنعرف علاقة الشعر بالصحافة، فقد وجّهت الجزيرة نت أسئلة لشعراء عملوا في الصحافة لاستطلاع آرائهم، وبينها: هل يتوه منك النص الصحفي في أزقة الشعر، وهل تراه قد خرج من كونه نصًا صحفيًا يحمل سماته الخاصة، ليدخل حيّز الشعر كأن يضم المجاز أو الخيال أو الصورة الشعرية، وما مدى تأثير أو انعكاس اللغة الشعرية على اللغة الصحفية، واللغة الصحفية على اللغة الشعرية، وأيهما أكثر سطوة من الأخرى؟
“فضيحة الشعر”
تقول الشاعرة والصحفية المصرية إسراء النمر، “لم أتخيل يومًا أن أمري سيُفضح لهذا الحد، فحين يعرف الناس أنك شاعر، يبدؤون في مراقبة أدق تفاصيلك، فالشاعر -في ظنهم- يجب أن يكون له “ستايل” (أسلوب أو نمط) في كل ما يفعله، حتى وهو يأكل.. وهو يرتدي حذاءه..”.
وتضيف “أحيانًا ألوم نفسي لأنني انجرفت هكذا وراء الشعر، والسبب في ذلك الصحافة، لا الشعر ذاته لأنها (القماشة) الأولى التي جرّبت فيها كل شيء”.
وتتابع إسراء للجزيرة نت، “أذكر أنني حين بدأت العمل الصحفي عانيت بشدة من طريقتي في الكتابة، لأنني كنت أختزل المعلومات التي أجمعها في أشهر طويلة، التي قد تصل إلى عشرين ألف كلمة في ألفين فقط، وكنت أسبّ نفسي، لأنني ظللت أشعر أن موادي كلها غير مكتملة”.
وتضيف “لقد فضحتني الصحافة، لأنني لم أتعامل معها لحظة كونها مهنة، أو شيئًا زائلًا، فهي بالنسبة لي تمرين يومي على الكتابة، واللعب، يكفي أنها تجعل مخيلتي نشطة دائمًا، فالصحافة -لأنها سرد- بإمكانها أن تستوعب الشعر، والشعر لا، فالشعر لا يستوعب إلا نفسه”.
القبض على اللغة
من جانبه، يرى الشاعر والصحفي العراقي قاسم سعودي أن “روح الشاعر هي التي تسود أسلوب الكتابة الصحفية، لذلك تخرج أغلب الموضوعات التي أكتبها مبللة بنكهة شعرية، ربما، لكنه يبقى أسلوب كتابة في الصحافة الثقافية تحديدًا”.
ويضيف سعودي للجزيرة نت، “أحيانًا يتوه الشعر وأركض خلفه محاولًا القبض على نظام داخلي متزن أمارس فيه دور المتلقي أولًا، لا الكاتب، وقد يخرج النص الصحفي عن سماته الخاصة، ويصل إلى تلك الضفة المسكونة بالقليل أو الكثير من الصياغات والدلالات والرؤى الشعرية، وهذا أمر لا بأس به على شرط ملامسة الموضوعة التي يُراد كتابتها، وإحاطتها بجميع عوامل الجودة الصحفية”.
يخلص سعودي إلى أنه “قد يكون المعيار هنا صعبًا، لكن لا بأس بالمغامرة التي تخرج من روح الشعر وتلتصق بروح الخبر، أو الموضوع الصحفي لتضيف له شيئًا من الدهشة والمغايرة، على صعيد الأسلوب والنسيج اللغوي المتزن”.
تعالي الشعر
بينما يذهب عبد القادر الجنابي -وهو شاعر وناقد وصحفي عراقي فرنسي- إلى أن “الشعر يمنح مواده تعاليًا روحيًا لا علاقة له بالسماء، فالشاعر لا يتلاعب بالاستعارة كما يتلاعب الصحفي، بل يحررها من أي انجرار إلى الوهم”.
ويضيف “الصحافة -حتى في أصدق تقاريرها- تجعل موادها سلعة تتلاعب بمشاعر القارئ لحسابات أقرب إلى البورصة، فالكلمات تضحك في عين الشاعر وتبكي في عين الصحفي، لأنه لا يرى إلا الكوابيس المثيرة، بينما لا يرى الشاعر سوى أحلام أثيرة”.
ويتابع الجنابي للجزيرة نت، “لدينا في العالم العربي شاعر دخيل على الصحافة، وصحفي دخيل على الشعر. لكنْ ليس هناك شاعر صحفي أو صحفي شاعر، وإنما التناقض كبير بينهما”.
ويفسر الجنابي ذلك التناقض بالقول، إن الشاعر يتعامل مع الموضوع لصالح القصيد، أما الصحفي يغطي الحدث لصالح التقرير. ولكل واحد منهما أسلوبه، ويتابع “من الخطأ القول إنه يمكن للصحفي الاستفادة من اقتصاد الشاعر اللغوي. ذلك لأن هذا الاقتصاد نابع من طبيعة القصيدة نفسها… مثلما الإسهاب الصحفي نابع من طبيعة التقرير والحدث”.
ويضيف بأنه لا يمكن كتابة تقرير صحفي بالصور والأخيلة والمجازات ووجيز القول، وإلا سيصبح التقرير مجرد إنشاء تحت عنوان معدّ مسبقًا، “وهذا هو عين ما هو مُتّبع في الصحافة العربية”.
ويكمل فكرته، “لم أر إلى اليوم شاعرًا عربيًا استطاع فعلًا أن يكتب تقريرًا صحفيًا يحترم كل معايير الصحافة وأقيسة الشعر الرمزية، في آنٍ. ربما حاول أنسي الحاج، لكنه بقي في الملاحظة الشعرية وشقائها النثرية، أكثر من الغوص في خلفيات الحادث المعني، والتفاصيل الضرورية لكتابة تقرير جيد”.
ويقول الجنابي، “لا أحتاج إلى التذكير -بالطبع- بأنه ليس هناك صحفي عربي واحد استطاع أن يجعلنا نقرأ تقريره مثل قصيدة”.
ويختم الجنابي حديثه بأن “المشرف على الصفحة الثقافية لا يقصد أن يخلط الشعر بالصحافة، فهو لا يعمل أكثر مما هو مطلوب منه، فهو ينسّق المواد ويختار ما يراه مفيدًا وينشره. أما ما يكتبه من متابعة عن إصدار أو عن شاعر أو روائي، فيدخل في باب النقد المطلوب في العمل الصحفي، مثل إشهار كتاب أو تحطيمه. وفي العالم العربي حيث إنه ليس لمعظم المؤلفين علاقة خاصة بهذه الصحيفة أو تلك، فإن الشاعر ينظر للصحيفة كوسيلة لإشهاره، لا أكثر ولا أقل”.
ويتحسّر، “كم من شاعر فُرِض اليوم، لأنه عمل في الصحافة مثل مقايض”!