لم يكن بيير باولو بازوليني (1922-1975) يوما شاعرا عاديا في المشهد الأدبي الإيطالي، بل ناقدا ثقافيا ومنّظرا ذا رؤية لا يزال فلاسفة إيطاليا إلى يومنا هذا يحتكمون إلى كتاباته ويعتمدونها مفاتيح لقراءة المعضلات التي يواجهها العالم، لا سيما تلك المرتبطة بالحضارة الرأسمالية.
يخبرنا دييغو فوزارو في إصداره الأخير “نهاية المسيحية.. موت الإله في زمن السوق المعولمة والبابا فرانشيسكو”، الصادر عن منشورات بيمي (2023)، أن كل شيء بدأ عام 1973عندما استيقظ الإيطاليون على إعلانات تملأ الشوارع لماركة جينز جديد، وتقول هذه الإعلانات “لا جينز إلا أنا”.
وشاهد الإيطاليون إعلانا آخر تبرز فيه امرأة ترتدي الجينز ذاته كتب عليه “من يحبّني يتّبعني”، كانت تلك هي “شعارات الجينز يسوع، التي أنزلت المقدس من السماوات وحوّلته إلى سلعة دعائية ذات طابع استهلاكي جنسي”، يقول فوزارو في كتابه.
ولم يكن شاعر إيطاليا الأول آنذاك ليترك مثل هذا الحدث يمر دون قراءة حيثياته وتداعياته المستقبلية على الكنيسة وعلى المجتمع.
قراءة استشرافية نقَلها لنا فوزارو ضمن الفصل المعنون “نبوءة بازوليني”، أعلن فيها بداية نهاية الديانة المسيحية في إيطاليا بعد أن قررت حضارة الاستهلاك دخول حرب معلنة على الكنيسة، وذلك عكس النظام الفاشي الذي فضل إقامة تحالف معها استفاد منه الطرفان، بحسب بازوليني.
فلماذا، إذن، قررت الحضارة الرأسمالية الجديدة -التي يعدّها بازوليني أشد توتاليتارية من الفاشية- هدم المسيحية؟
حصن الأديان الرمزي
“تضطلع الديانات السماوية اليوم، لاسيما الإسلام والمسيحية، في أوروبا بدور الحصن الرمزي في جبهة المقاومة ضد تمدد العدمية التكنورأسمالية”، هكذا يفتتح الفيلسوف الإيطالي دييغو فوزارو فصله المعنون بـ”كبح العدم المتمدد.. القوة الحاجبة للدين”، من كتابه الجديد والذي أكد فيه أن خلع مظاهر المقدس عن العالم أصبح سمة ملازمة للحضارة الغربية اليوم، وهي الحضارة الوحيدة في تاريخ البشرية التي تتفاخر بتخلصها من الدين وقتل الإله.
ولم تعد حضارة الرأسمالية المطلقة، التي تؤسس هيمنتها على العدمية النسبية وقوة التقنية، بحاجة إلى الاعتماد -كما في الماضي- على الدين كأداة للسلطة، مما جعل مصلحتها في أن تدفعه للانقراض.
وإن كان شعار القديس أغسطين في كتابه “الاعترافات” هو “أي غنى لي خارج الله هو الفقر”، فتلك هي تماما “الآية” التي تسعى “الديانة التوحيدية” للسوق إلى قلبها، يقول فوزارو، مؤكدا أن التراث الرمزي والأخلاقي للديانات السماوية كامن في التوحيد المسيحي والإسلامي الحامل لحس المجتمع التضامني المرتبط بالمقدس، عكس ما تبشر به عدمية التبادل التي تسعى حضارة التجارة لتكريسها.
ويقول المؤلف إن “النتيجة من خسوف المقدس وموت الإله تؤدي إلى بطلان معنى الحياة لدى الإنسان الغربي، الذي لم يعد وجوده محميا بأي أفق للمعنى ولم يعد موجها لأي هدف نهائي يتعين عليه تحقيقه. ليصبح المعنى الوحيد من عالم منزوع الآلهة يرتبط بنمو خارج الذات يمثله التقدم التكنولوجي ومؤشرات السوق المالية”.
الدين والفلسفة في حضارة حديثة
ويواصل فوزارو -وهو أحد أكثر مفكري إيطاليا تأثيرا في الوقت الحالي- أن “الدين والفلسفة من حيث إنهما أداتان للبحث عن الحقيقة من الداخل، لم يعد لهما مكان ضمن حضارة اتخذت شكل سلعة، كل شيء داخل حدودها لا يمكن سوى أن يكون له ثمن”.
في السياق ذاته، وفي الفصل المعنون بـ”عالم لا يسكنه إله”، يشدد فوزارو على أن الإسلام حاليا هو الديانة الأكثر تنافرا مع روح الرأسمالية، فعلاوة على أنه لا يزال يحتفظ بمعنى المقدس، فهو يتمتع باستقلال سياسي وروحي على غرار الكنسية في روما.
الأمر الذي سهل لأصحاب الفكر المادي اختلاق عداء بين الديانتين تحت مسمى “حرب الأديان” من أجل تصفية الديانات السماوية على اعتبار أنها ديانات تميل للتعصب.
يواصل فوزارو أننا نعيش في الحقيقة “حربا على الأديان”، لأن عدم التوافق الحقيقي يكمن بين الدياناتين السماويتن (الإسلام والمسيحية) من جهة، وما يطلق عليه فوزارو اسم الديانة الإلحادية للسوق، وبين المسيحية والرأسمالية والتعصب الاقتصادي.
وأما التعصب الديني فقد خصص له فوزارو فصلا مثيرا عنونه بـ”الإرهاب بوصفه صورة عن التقنية وموت الإله”، اعتمد فيه مقاربة خلص من خلالها إلى أن ما يطلق عليه “الإرهاب الإسلاموي” و”الحضارة الغربية السامة” ليسا في الحقيقة سوى وجهين لعملة واحدة يتوجب مواجهتهما بالحزم ذاته، دون أن يغيب عن ذهننا أن الصورة “المفهوماتية” للإرهاب تتوافق مع مبادئ العدمية الغربية للمجتمع التكنولوجي أكثر من توافقها مع روح الديانة الإسلامية.
الإرهاب والعولمة
ويشدد فوزارو على أن “الإرهاب الإسلاموي” المعولم ليس عدوا للعولمة الإلحادية، بل رديفا لها وعاكسا للعدمية الرأسمالية وتعصب السوق الحر المنخلع كليا عن أسس الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية الرومانية والإغريقية سواء بسواء.
“فالإرهابي تظهر إلحاديته وعدميته من خلال التوفيق بين فكرة الإله والموت. بهذا المعنى من يتوهم أنه يقتل باسم الله هو أيضا يقتل الله مرادف الأزلية، ويعتنق العدمية مرادف اللاشيء”، بحسب المؤلف.
التوافق الكامل بين العدمية الليبرالية والإرهاب يظهر، بحسب فوزارو، بين التطابق التام بين شعار الإلحاد النيتشوي “موت الإله” مع شعار الإرهاب “الإله موت”.
والواقع أن المعنى العدمي الوحيد الذي تمنحه حضارة السلع في زمننا الحالي للإنسان هو ما تمنحه للإرهابي من خلال تمثّله الكامل لجوهرها.
فأن يكون الإرهاب ابن العدمية التقنية أكثر من كونه ابن الإسلام، يواصل فوزارو، يتجلى من خلال تبنيه منهج إعدام الحضارة ورموزها على غرار تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان على النحو الذي تريده ثقافة الإلغاء في الغرب، التي تطالب بتحطيم كل رموز الحضارة والتقاليد والتماثيل والصور التي لا تتوافق مع رؤى “الووك“.
وإذ يشير فوزارو إلى أن “ثقافة الإلغاء” و”الصوابية السياسية” ومعهما “العلمانوية المتطرفة” تنهل كلها من منبع العدمية ذاته الذي ينهل منه الإرهاب، فكلاهما تحركه رغبة في القتل، وإن كان بشكل مخاتل (مخادع). كما أن الاستعراضية الهوليودية للرعب والإرهاب “الدعائي” على طريقة داعش (تنيظم الدولة الإسلامية) وبن لادن (تنظيم القاعدة)، تجعلنا ندرك أننا أمام خرائط مفهوماتية مشتركة بين الإرهاب الإسلاموي والحضارة العدمية التكنورأسمالية، بحسب المؤلف.
ويخصص فوزارو في كتابه، الذي يقع في 396 صفحة، فصلا عن الإسلام عنونه بـ”الحرب على الدين.. الإسلام والرأسمالية”، أكد فيه أستاذ تاريخ الفلسفة في معهد العلوم الإستراتيجية والسياسية بميلانو، أن صمود الإسلام أمام محاولات تفكيكه يعود كما يؤكد (الفيلسوف الإيطالي) أنطونيو غرامشي إلى محاولة ضربه من المجتمع الرأسمالي دفعة واحدة عكس المجتمع المسيحي، الذي مر بمراحل تدريجية للتطبيع مع الحداثة التكنورأسمالية، حيث إن غرامشي لم يستبعد أن يقع للإسلام ما وقع للمسيحية إن تم اتباع الأسلوب التدريجي نفسه لاستعماره.
احترام زائف
ويذهب فوزارو في الفصل ذاته للتأكيد أن “الاحترام الزائف” الذي تظهره بعض الأوساط الغربية للإسلام اليوم ليس سوى أداة لخلع المسيحية أكثر عن الغرب، ولا يعبّر البتة عن تسامح حقيقي مع ديانة فشلت إلى الآن كل عمليات تدجينها بالأساليب التقليدية.
لتظهر هنا تحديدا أهمية الاستقلالية والموضوعية والصرامة المنهجية لمفكرين كدييغو فوزارو لتقديم رؤية واضحة عن الإسلام للقارئ الغربي، وربطها بديناميكيات الاستعمار الجديد بعيدا عن الأجندات الأيديولوجية لدوائر الاستشراق الجديد في أوروبا.
بتعبير آخر، يقول فوزارو إن “الكتلة الأوليغارشية النيوليبرالية نفسها التي تحارب الإسلام خارج أوروبا من خلال كهنوتها الفكري المكّمل، وتربطه لأسباب أيديولوجية بحتة بالإرهاب، (والحقيقة تعود لتعارضه الجوهري مع حضارة السوق)، هي من يحتفي به (أي الإسلام) في أوروبا وتدّعي تقبّله لغرض واحد ووحيد هو تسهيل عمليات إزالة المسيحية من الغرب بشكل كلي.
إن الأثرياء الليبراليين ومحتكري الخطاب يتظاهرون بالترحيب بالإسلام في أوروبا، لكنهم يقاتلونه في أماكن أخرى، فقط لتحقيق تحييد أكبر للمسيحية داخل أوروبا، منطقة هيمنتها التاريخية”.
وهذا لا يرمي لاستبدال المسيحية بالإسلام، كما ينظر لذلك من أطلق عليهم فوزارو اسم أصحاب “العمق الفارغ” على غرار الصحفية أوريانا فالاتشي، ولكن من أجل ضرب الديانتين ببعضهما.
ويصبح بذلك النظام التكنورأسمالي هو “النظام الرمزي الجديد” الذي من شأن الإنسان الغربي أن يتحرك داخله.
ولهذا السبب، وفقا لتحليل بازوليني، فإن الروح الجديدة للسلطة التي أظهرت في البداية أنها “منافسة للسلطة الدينية” سيكون مقدرا لها “أخذ مكان الدين في تزويد الإنسان برؤية شاملة ووحيدة للحياة”، رؤية مجردة من كل قداسة تنقطع فيها الروح عن كل اتصال مع الأبدية.
يذكر أن دييغو فوزارو أستاذ تاريخ الفلسفة في المعهد العالي للدراسات الإستراتيجية والسياسية بميلانو، من مواليد تورينو عام 1983، ويعد من أبرز الأصوات النقدية المستقلة في الفكر الفلسفي المعاصر، وأكثرها جماهيرية في إيطاليا، وهو مختص في الفكر الهيغلي والماركسي، وصدر له عشرات الكتب عن كبريات دور النشر الإيطالية، ترجمت إلى العديد من اللغات الأوروبية، ويقدم حاليا برنامج “ضد التيار” على محطة “بيوبلو” الفضائية.