ظل التأثير الثقافي العالمي لفترة طويلة محصورًا بما تقدمه بلدان غربية من قيم ومعايير اجتماعية وفنية وثقافية وعلمية، لكن استضافة دولة قطر لمونديال كأس العالم 2022؛ أثبتت أن الريادة ليست حكرًا على شعوب وثقافات بعينها.
وحاولت الجزيرة نت -بعد قرابة عام من الحدث الرياضي العالمي- تتبع الإرث الثقافي لمونديال الدوحة؛ عبر استطلاع آراء مثقفين عرب وأوروبيين، لاستكشاف تلك التجربة الفريدة من “التثاقف العالمي” في كأس العالم 2022 في دولة قطر.
نافذة ثقافية على العالم
تجاوز مونديال 2022 ملاعب الكرة وساحات الرياضة؛ ففي الوقت الذي كان يقام فيه هذا الاحتفال بحدث رياضي، قدمت مبادرة “قطر تبدع” التي أطلقتها “متاحف قطر” مجموعة واسعة من العروض الثقافية التي “مكّنت قطر من أن تظهر للعالم أنها يمكن أن تكون أيضًا قوة ثقافية”، حسب مديرة مؤسسة البيت العربي في مدريد، إيرين لوثانو دومينغو.
وتشير دومينغو، في حديثها للجزيرة نت، إلى أن المعرفة تساعد على التخلص من الصور النمطية والمفاهيم المسبقة، “حيث كان كأس العالم فرصة فريدة لدولة قطر والبلدان الأخرى في المنطقة”.
وتضرب دومينغو مثالًا بأن السياح الذين سافروا إلى قطر لغرض حضور مباريات كرة القدم، “أتيحت لهم الفرصة -أيضًا- لاكتساب معرفة مباشرة عن البلد وثقافته وهُويته”.
وعن تدفق التأثير المتبادل بين الثقافات، تجيب المفكرة الإسبانية إيريني لوثانو دومينغو، بالقول “إن المشاركة الثقافية بين الشرق والغرب هائلة ولا تنتهي أبدًا”، مؤكدة أن “هذا الاتصال يتدفق بشكل جيد في كلا الاتجاهين، ويثرينا جميعًا”.
وترى أن الاهتمام بالثقافة العربية في جميع أنحاء العالم، الذي يتجاوز مجرد الرياضة، بدا كأحد أكثر الجوانب إيجابية، وأضافت “كل خطوة إلى الأمام من حيث التسامح والتعايش وحقوق الإنسان، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، هي مدعاة للاحتفال”.
الدبلوماسية الثقافية.. طريق جديد للعرب
تركت بطولة كأس العالم في قطر 2022 بصمات إيجابية في العديد من المجالات، ولا سيما على الصعيد الثقافي. وبهذا الصدد يقول حمد بن عبد العزيز الكواري، وزير الدولة القطري ورئيس مكتبة قطر الوطنية، إن المونديال “ساعد على تقديم هويتنا وثقافتنا للعالم من منظورنا، وليس من منظور أولئك الذين ظلّت آفات الفكر الاستعماري معمرة في عقولهم إلى أيامنا”.
ويضيف أنه “لا مجال لأحد للادعاء بأن ثقافة واحدة تمتلك الشرط الأساسي لبناء الحضارة الإنسانية”. ويؤكد أن استضافة قطر لكأس العالم “كانت فرصة لسريان التأثير الثقافي عكس التيار، من الشرق إلى الغرب، واكتشاف الصورة الحقيقية للإنسان العربي بعيدًا عن الأفكار المسبقة”.
وشدد رئيس مكتبة قطر في حديث للجزيرة نت، على أهمية “إحياء أدوار الثقافة بين الشعوب”، معدًّا أن من شأن ذلك “رأب صدوع كثيرة في العلاقات الدولية”، ويتساءل هل من مجيب في وقت تعجز فيه منظمات دولية عن توفير أرضية لخطاب “التنوع الثقافي” والتقارب بين الشعوب؟
ويخلص الدبلوماسي المخضرم إلى أن “ما حدث في المونديال هو أمر جليل، فقد نجح البلد الصغير العربي المسلم في كسب التحدي العالمي”. ويوضح أن “المونديال في دولة قطر كان فرصة لترويج ثقافتنا العربية الإسلامية، عبر مُثلها العليا التي سادت العالم لفترة ليست بالقصيرة”.
ويختم متسائلًا “هل الثقافة التي ندعو إليها غائبة أو أنها مغيبة في العلاقات بين الأمم؟ وهل حان زمن تصحيح بعض المفاهيم حولها حتى تستعيد الإنسانية وضوح رؤيتها للمرحلة القادمة؟
ويعتقد الوزير الكواري بأن مونديال الدوحة “أسهم بفعالية بتغيير الصورة السلبية الاستشراقية عن العرب، التي اخترعها الغرب لعقود”.
عبق الثقافة والتاريخ
كان المكسب الأبرز على المستوى الدولي في مونديال الدوحة 2022م، هو صلة الرحم الإنسانية، ونشر التقاليد العربية، كما يقول عيسى الشيخ حسن، الكاتب والشاعر السوري.
ويضيف عيسى، “في الدوحة سمعتْ الجماهير من مشارب مختلفة صوت الأذان، وتناولوا الطعام العربي، واقتربوا من عالم ظل طويلًا تحت مجهر التهمة، ليكتشفوا زيف الدعايات المغرضة”.
ويوضح في حديث للجزيرة نت، “لقد زعزعت بطولة كأس العالم في نسختها العربية، الصورة النمطية التي ترسمها (الميديا) الغربية للعربي”.
ومن أبرز الصور المشرقة، حسب عيسى، “أن شاهد المشجع الغربي في العديد من المدن والمناطق في دولة قطر صورة (جديدة عليه) لعرب يدعونهم إلى الطعام، وينقلونهم بسياراتهم، ويحملون أبناءهم الصغار مسافات طويلة. تغيرت الصورة كثيرًا، وهذا ما يجب البناء عليه”.
ويتابع عيسى، “كان التجاوب مع التراث العربي من كل لون وقومية كبيرًا، ومن هنا فإن الشعوب سرعان ما تتمازج وتتلاقح ثقافيًا”.
ويرى الشاعر السوري أن بطولة كأس العالم التي نظمتها قطر، “تركت صدى واسعًا في جميع أنحاء العالم، من حسن الاستقبال، والاقتراب من الثقافة العربية الإسلامية، بمظاهرها اليومية”.
تثاقف الشرق والغرب
بالرغم من التحديات والضغوط التي تعرض لها مونديال قطر، كان لنجاح تنظيم كأس العالم في الدوحة أثر كبير في المستوى الثقافي، كما يفيد الأكاديمي المقيم في موسكو، محمود حمو الحمزة.
ويشير محمود في حديثه للجزيرة نت، إلى أن تجربة المونديال أثبتت “لضيوفها العادات والتقاليد والكرم العربي، فكان هناك ترحيب لافت بهم في أجواء ودية، التي تركت أثرًا كبيرًا في نفوس الضيوف”.
ويعتقد أنه رغم الدعايات ومحاولات التشويه، فإن المجتمع القطري والعربي “أثبتا مساهمتهما في إكمال اللوحة الثقافية العالمية، وأن الشعوب العربية والإسلامية لديها حضارة عريقة، وأنها عصرية ومنفتحة على الآخر، وليس لديها تعصب”. ويرى محمود أن ذلك “أعطى صورة مشرقة عن الثقافة والهوية العربية والإسلامية”.
ويبين بأن تنظيم كأس العالم في دولة قطر “خلق آثارًا إيجابية في نفوس العالم، وأشعرت الدوحة العرب بأنهم قادرون على أن يفعلوا شيئًا، ويكون لهم دور في مسار الحضارة الإنسانية، وأن يقدموا تجربة رائدة في العصر الحديث”.